خطبة عيد الأضحى: خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 10 ذو الحجة 1437هـ – 12 سبتمبر 2016م
خطبة عيد الأضحى: خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين، للدكتور خالد بدير، بتاريخ 10 ذو الحجة 1437هـ – 12 سبتمبر 2016م.
لتحميل خطبة عيد الأضحي المبارك بصيغة word أضغط هنا
لتحميل خطبة عيد الأضحي المبارك بصيغة pdf أضغط هنا
ولقراءة الخطبة كما يلي:
عناصر الخطبة:
العنصر الأول: خواطر ولطائف حول العيدين الكريمين
العنصر الثاني: الابتلاء والاختبار والامتحان من خلال قصة الذبيح
العنصر الثالث: آداب عيد الأضحى وسننه
المقدمة: أما بعد:
العنصر الأول: خواطر ولطائف حول العيدين
أحبتي في الله: هناك عدة خواطر ولطائف مشتركة بين العيدين الكريمين؛ وهذه الخواطر تتمثل فيما يلي:-
الخاطرة الأولى : أن جعل الله عيداً لأول نزول القرآن وعيداً لآخره
فقد بدأ نزول القرآن في ليلة القدر وأعقبه بعيد الفطر !! قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} ( البقرة : 185 )؛ وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) } ( سورة القدر )
وختم نزوله بحلاله وحرامه وإتمام النعمة في يوم عرفه وأعقبه بعيد الأضحى . فعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ؛ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا؛ قَالَ أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا }[المائدة:5]. قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.”(متفق عليه)؛ ولذلك فهو يوم عيد ؛ فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ؛ وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ.” (أحمد والترمذي أبو داود والنسائي والحاكم وصححه). فكأن الله جعل عيدا لأول نزول القرآن وعيدا لآخر نزوله !
الخاطرة الثانية: تكريم الفقراء في العيدين الكريمين
فقد أكد الشارع الحكيم على سعادة وفرحة الفقراء في العيدين الكريمين وإدخال السرور عليهم ؛ ففي عيد الفطر فرضت زكاة الفطر طعمة للفقراء والمساكين وإغناءً لهم عن السؤال في هذا اليوم ؛ فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:” فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ.” ( أبو داود وابن ماجة )
وتكريما للفقير وإعلاءً من شأنه أنه أوجب عليه زكاة الفطر كالغني تماما ؛ لأنها تجب على من عنده قوت يكفيه يوم وليلة العيد ؛ وهو بلا شك تجتمع عنده زكوات الحي كله ؛ فأصبحت واجبة عليه كالغني تماما ؛ فيخرجها لأخيه الفقير ؛ فإذا كان الفقير يمد يده طوال العام آخذاً ؛ فقد رفع الإسلام شأنه أن يمد يده في هذا اليوم معطياً لا آخذاً ؛ لتكتمل فرحة وسعادة وبهجة العيد في قلبه وقلب أولاده !!
وفي عيد الأضحى شرعت الأضحية وأصبحت سنة مؤكدة؛ ومن الفقهاء من أوجبها على القادر لأهميتها وفضلها ؛ لما فيها من إغناءٍ وإطعامٍ للفقراء وإدخال البهجة والسرور عليهم في هذا اليوم ؛ فإن فيهم من لا يأكل هذا اللحم من العام إلى العام؛ وهذا تنفيذ لأمر الله المكرر والمؤكد في القرآن ؛ حيث قال المولى – جل في علاه – عن الأضاحي: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ }(الحج: 28) . وقال: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ } ( الحج: 36 ).
وإذا كان الإسلام رفع شأن الفقير أن يدفع زكاة الفطر تكريما له ؛ فقد رفع شأنه في أخذه الأضحية؛ حيث يستوي هو والغني تماماً في الأخذ من الأضحية ولا سيما أقارب المضحي من الأغنياء والجيران؛ فكرم الفقير معطياً كالغني في عيد الفطر ؛ وآخذاً كالغني أيضاً في عيد الأضحى !!
بل إن هناك جمعياتٍ خيريةً ؛ ورجال أعمالٍ يذبحون أضاحي عن الفقراء من أهل الحي عندهم ؛ وهذه كلها مبادئ إسلامية رفيعة؛ فيها البر والإحسان والتعاون والتآلف والتواد والتراحم؛ وكلها مظاهر من التكريم والفرحة والبهجة وإدخال السرور على الفقراء والمساكين في العيدين الكريمين؛ فما أجمل هذا الدين الحنيف !!
الخاطرة الثالثة : شعيرة التكبير في العيدين :
فالله- عز وجل – أمرنا بالتكبير عند اكتمال عدة رمضان ورؤية هلال شوال ( عيد الفطر ) قال تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .
وفي الحديث عن الأضاحي في عيد الأضحى أمرنا الله بالتكبير فقال: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج: 37)
فالتكبير في العيدين من شعارات المسلمين، وسنة من سنن سيد المرسلين، وعلامة من علامات الفرحة لدى الموحدين، وابتهاج بقدوم العيدين، وفيه قمع وغيظ للكفار والمنافقين.
فالإنسان في أيام العيد يكون مشغولاً بشهوات الأكل والشرب واللعب والمرح ؛ ومع ذلك أمر بالتكبير وأن الله أكبر من كل شئ فلا ننساه في كل وقت وحين حتى أيام العيد . ” قال بعض الأكابر : من أعظم أسرار التكبير في هذه الأيام أن العيد محل فرح وسرور ؛ وكان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة ؛ وتارة بغيا ؛ شرع فيه الإكثار من التكبير لتذهب من غفلتها وتكسر من سورتها.” (فيض القدير ؛ للمناوي)
الخاطرة الرابعة: شكر الله
فالله أمرنا بالشكر في العيدين الكريمين على إتمام فريضتين عظيمتين وهما : الصيام والحج . ففي الصيام قال تعالى: { وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185) .
وفي الحج عند الحديث عن الأضاحي قال: {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (الحج: 36)؛ أي: تشكرون الله على ما أنعم عليكم من الصيام والقيام والحج وجميع الطاعات.
قال ابن كثير : ” وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته بأداء فرائضه، وترك محارمه، وحفظ حدوده، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك.”
قال العلماء : ” شُكر الطاعة طاعة مثلها ” ، فشكر الصيام صيام مثله وهكذا ، بمعنى أنك صمت شهر رمضان والصيام لم ينته بعد، فهناك ست من شوال، والاثنين والخميس وغيرها، ولذلك هناك فرق بين الشكر والحمد، فالحمد باللسان والشكر بالعمل ، قال تعالى : { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ }.( سبأ : 13)، فالشكر يكون من جنس النعمة التي أنعم الله بها عليك، فإذا تكاسل العبد عن الطاعة فهذا يكون دليل على عدم قبول العمل عند الله، وإذا داوم عليها وثبتها فهذا دليل على قبولها عند الله، وكان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم – المداومة على الأعمال الصالحة، فعن عائشة- رضي الله عنها – قالت: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم – إذا عمل عملاً أثبته) (رواه مسلم)، وأحب الأعمال إلى الله وإلى رسوله أدومها وإن قلَّت، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)( متفق عليه)، وقَالَت عَائِشَةَ – رضي الله عنها -: ” كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً “( البخاري ومسلم).
الخاطرة الخامسة: ملازمة تقوى الله
فقد شرع الصيام والحج من أجل تحقيق تقوى الله عز وجل؛ ففي الصيام قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }( البقرة : 183)، فالغاية منه التقوى، وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي، فمن صام ولم يحقق التقوى فلا صيام له، لقوله – صلى الله عليه وسلم- :” رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر ” (رواه ابن ماجه وابن خزيمة والحاكم وقال صحيح على شرطهما.).
وفي الحج قال تعالى: { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} (197)؛ وقال: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} (الحج: 32). وقال عن الأضاحي: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ }(الحج: 37)
فالحج شرع لتحقيق التقوى ولتمتنع عن الرفث والفسوق والجدال؛ إن فعلت ذلك رجعت من ذنوبك كأنك ولدت من جديد ؛ ” مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ”. ( متفق عليه من حديث أبي هريرة). وبمفهوم المخالفة من ساءت أخلاقه ولم يعصم نفسه من الرفث والفسوق والجدال فلا غفران ولا حج له !!!
فما أجمل تجمل العباد بلباس الزينة ظاهراً ؛ ولباس التقوى باطناً في العيدين الكريمين !!
الخاطرة السادسة : العيدان الكريمان عقب فريضتين عظيمتين
فمن ينظر إلى العيدين الكريمين يجد أنهما شرعا عقب فريضتين عظيمتين وهما الصيام والحج .
فعيد الفطر شرع بعد إتمام عدة صيام رمضان؛ فهو يوم الفرحة والبهجة والسرور ؛ وقد عبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذه الفرحة والبهجة بقوله: ” لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ ” ( متفق عليه )
وعيد الأضحى شرع بعد فريضة عظيمة ألا وهي فريضة الحج؛ فعودة الحجاج من الأراضي المقدسة إلى بلادهم وأسرهم بعد أداء الفريضة فرحة ما بعدها فرحة وبهجة ما بعدها بهجة !!
ولعل سائل يسأل : لماذا جاء العيدان بعد الصيام والحج خاصة ؟!!
والجواب : أن هاتين الفريضتين لا يتكرران إلا في كل عام مرة؛ ولهما وقت محدد يشمل جميع الأفراد في هذا التوقيت المحدد ؛ بخلاف الصلاة تتكرر كل يوم؛ والزكاة مرتبطة بحول كل فرد !!
فجاء عيد الفطر بعد الصيام لتعم الفرحة جميع الأفراد ؛ وجاء عيد الأضحى أيضا بعد فريضة الحج لتعم الفرحة جميع الأفراد كذلك!!
العنصر الثاني: الابتلاء والاختبار والامتحان من خلال قصة الذبيح
أيها المسلمون: إن الابتلاء سنة كونية ولا سيما في حياة الأنبياء عليهم السلام؛ ومن أشد الأنبياء بلاءً إبراهيم عليه السلام ؛ فهو أحد أولي العزم الخمسة من الرسل: نوح وإبراهيم وموسي وعيسى وخاتمهم محمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين؛ فإبراهيم ابتلي في قومه وولده؛ وهل هناك أشد بلاءً من إحراقه بالنار؟!! ولكن الله نجاه منها وسلب منها صفة الإحراق!! والقصة معروفة ومذكورة في القرآن الكريم ؛ بعدها سأل ربَّه أن يَهَبَه ولدًا صالحًا، عوضًا عن قومه، ويؤنسه في غربته، ويعينُه على طاعة ربِّه والدَّعوةِ إلى دينِه.
فاستجابَ اللهُ دعاءَه فَرَزَقَهُ ولدًا صالحًا:{ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ ٱلصَّالِحِينِ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ }(الصافات 101،99)؛ رزق إبراهيم بولده إسماعيل في سن كبير ، ورد في التوراة أنه كان في السادسة والثمانين من العمر، ولنا أن نتخيل كم يكون قدر هذا الطفل الذي جاء على شوق كبير وانتظار طويل، فأحبَّه وقرَّت عينُه، وتعلَّق قلبُه به… ترى كم يكون قدره عند والديه ومحبتهما له؟!!! إن الواحد منا لو تأخر في الإنجاب خمس سنوات- مثلاً – يذهب إلى أمهر الأطباء ويضحي بالغالي والنفيس من أجل الإنجاب؛ وكم تقدر فرحته لو رزق بمولود بعد طول هذه المدة؟!! فما بالك لو كان ذلك بعد ستةٍ وثمانين عاما؟!!
رزق إبراهيم عليه السلام بإسماعيل؛ وبلغ معه مرحلة السعي؛ أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه، وعلى هذا فإن إسماعيل في سن بداية الشباب ثلاثة عشر عاما تقريبا، ووالده قد قارب المائة عام، ومن المعلوم أن الوالد حينما يكبر في السن يزداد ضعفه، ويبدأ في الاعتماد على ولده بصورة كبيرة .
لقد ابتُلِىَ إبراهيم في شبابه حين أُلْقى في النار،فقال “حسبنا الله ونعم الوكيل ” ، أما هذه المرة فالابتلاء يأتيه وهو شيخ كبير، وقد جاءه الولد على كِبَر، فهو أحبُّ إليه من نفسه وها هو يُؤمَر بذبح فلذة كبده وثمرة فؤاده.
ونلاحظ شدة البلاء حينما يأمر الله تعالى أن يتولى إبراهيم بنفسه الذبح، لم يخبره الله أنه سيموت فيهون الأمر، ولا يطلب منه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب منه أن يكلفه أمراً تنتهي به حياته.. إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده….. يتولى ماذا؟! يتولى ذبحه!!.
ونلاحظ أن إسماعيل كان هو الوحيد في هذا الوقت ليس له إخوة آخرون، لو تخيل أحدنا هذا الأمر!! ماذا لو أمرك الله بذبح ولدك وحيدك ؟! هل تقوى على ذلك ؟! والله إنه لبلاء لا يطيقه إلا الأنبياء!!؛ {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ ٱلسَّعْيَ قَالَ يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ”(الصافات: 102)؛ فلم يتردد، ولم يخالجه إلا شعور الطاعة والتسليم والاستجابة والانقياد؛ إنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب.. كلا إنما هو القبول والرضا والطمأنينة والهدوء!! وهنا وقفة: لماذا أخبر إبراهيم ولده بالأمر ؟!
إن إبراهيم لم يأخذ ابنه على غرة ( فجأة) لينفذ أمر ربه وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر؛ فالأمر في حسه هكذا….. ربه يريد !! فليكن ما يريد !!! وابنه ينبغي أن يعرف ويعلم الأمر، وأن يأخذ الأمر طاعة واستجابة واستسلاماً وانقياداً، لا قهراً واضطراراً، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم!!
وانظر إلى مدى البر والاستجابة والطاعة والانقياد من إسماعيل الذبيح عليه السلام؛ يوصي أباه قبل التنفيذ قائلاً: يا أبت أوصيك بأشياء: أن تربط يدي كيلا أضطرب فأوذيك!! وأن تجعل وجهي على الأرض كيلا تنظر إلى وجهي فتأخذك الشفقة فترحمني فلا تنفذ أمر الله!! واكفف عني ثيابك كيلا يتلطخ عليها شئ من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن!!! واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد!! وأقرئ أمي من السلام؛ وقل لها اصبري على أمر الله!! ولا تخبرها كيف ذبحتني وكيف ربطت يدي!! ولا تدخل عليها الصبيان كيلا يتجدد حزنها عليَّ!! وإذا رأيت غلاما مثلي فلا تنظر إليه حتى لا تجزع ولا تحزن!! فقال إبراهيم عليه السلام: نعم العون أنت يا ولدي على أمر الله!!
فأمرَّ إبراهيم السكين على حلق ولده فلم يحك شيئا؛ وقيل انقلبت. فقال له إسماعيل: ما لك؟! قال: انقلبت، فقال له: أطعن بها طعنا، فلما طعن بها لم تقطع شيئا، وكأن السكين تقول بلسان الحال: يا إبراهيم أنت تقول اقطع؛ ورب العزة يقول لا تقطع !!!! لأن الله تبارك وتعالى لم يشأ لها أن تقطع، لأن السكين لا يقطع بطبعه وبذاته وإنما خالق القطع هو الله تعالى وحده، فالله خالق للسبب والمسبَّب،كما أنَّ الله تعالى هو خالق الإحراق وخالق النار التي هي سبب للإحراق، فالنار لم تحرق نبي الله إبراهيم عندما أُلقي فيها لأن الله تعالى خالق الإحراق ولم يشأ لها أن تحرق نبيه إبراهيم عليه السلام يقول الله جلت قدرته: {اللهُ خَالِقُ كُلِّ شَىْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ وَكِيلٌ (62)} [سورة الزمر].
وقتها نودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا؛ وهذا فداء ابنك؛ فنظر إبراهيم فإذا جبريل معه كبش من الجنة. قال تعالى:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]؛ أي أن الله تعالى خلص إسماعيل من الذبح بأن جعل فداءً له كبشا أقرن عظيم الحجم والبركة.
وقد صور أحدهم ذلك أدق تصوير في أبيات رائعة؛ وهي قصيدة طويلة اقتطفت منها ما يؤدي الغرض المنشود:
وأمرت بذبحك يا ولــــدى *** فانظـــــــــر فى الأمر وعقباهُ
ويجيب الابن بلا فــــــــزع *** افــــــــــــــــعل ما تؤمر أبتاهُ
لــــــــن نعصى لإلهى أمرا *** من يعصي يومــــــا مولاهُ ؟!!
واستل الوالد سكـــــــــــــينا *** واستســـــــــــــــلم الابن لرداهُ
ألقـــــــــــاه برفق لجـــــبين *** كــــــــــــــــى لا تتلقى عينـاهُ
أرأيتـــــــــــــــــــم قلبا أبويا *** يتقبــــــــــــــــل أمــرا يأباهُ ؟؟
أرأيتــــــــــــــــم ابنـــا يتلقى *** أمـــــــرا بالذبــح ويرضاهُ ؟؟
وتهـــــــــز الكون ضراعات *** ودعـــــــــــــــــــاء يقبله الله ُ
تتوســـــــــــــل للملأ الأعلى *** أرض وسمــــــــــــــاء ومياهُ
ويقول الحــــــــــــق ورحمتهُ *** سبقت في فضـــــــل عطاياهُ
صــــــــدَّقت الرؤيا فلا تحزن *** يا إبراهيم فـــــــــــــــــديناهُ
لقد أسلما.. فهذا هو الإسلام في حقيقته، ثقة وطاعة وطمأنينة ورضى وتسليم.. وانقياد واستجابة وتنفيذ.
عباد الله: إن هذا الأمر جاء ابتلاءً واختباراً وامتحاناً لإبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام؛ فلما ظهر منهما الاستسلام والخضوع والاستجابة؛ وتأكد ذلك؛ جعل الله الفداء لإسماعيل عليه السلام؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: ” إنَّ المصلحة في الذَّبح كانت ناشئةً من العزم وتوطين النَّفس على ما أمر به، فلمَّا حصلت هذه المصلحة، عاد الذَّبح مفسدة، فنُسخ في حقِّه، فصارت الذَّبائح والقرابين من الهدايا والضَّحايا سُنَّة في اتّباعه إلى يوم القيامة” (جلاء الأفهام)؛ وقال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: من فضل الله على الأمة أنه لم يتم الذبح لإسماعيل عليه السلام؛ فلو تم الذبح لأصبح ذبح الأولاد سنة.
وقال الإمام أبو حنيفة: فيه دليل على أن من نذر أن يذبح ولده يلزمه ذبح شاة.
أيها المسلمون: إذا كان الخليل وابنه إسماعيل عليهما السلام قد ضربا لنا أروع الأمثلة في الفداء والتضحية والاستجابة والانقياد والطاعة لأوامر الله عز وجل؛ فعلينا أن نضحي بأموالنا وأوقاتنا وأفعالنا وأقوالنا ونجعلها كلها طاعة واستجابة وخضوعا لله عز وجل!!
العنصر الثالث: آداب عيد الأضحى وسننه
أحبتي في الله: ونحن في يوم عيد الأضحى نذكركم بأهم آداب وسنن العيد التي يجب أن نستن بها من هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في يوم الأضحى والتي تتمثل فيما يلي:
أولاً: الاغتسال قبل الخروج إلى الصلاة : فقد صح في الموطأ وغيره :”أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ يَغْتَسِلُ يَوْمَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى الْمُصَلَّى.”؛ وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على استحباب الاغتسال لصلاة العيد .
ثانياً: ذبح الأضحية: ويستحب الذبح بعد صلاة العيد مباشرة؛ لقوله تعالى: { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ }(الكوثر: 1- 3)؛ ولقول رسول الله صلى عليه وسلم: “من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى، ومن لم يذبح فليذبح” [البخاري ومسلم] ولقوله صلى الله عليه وسلم عن البراء رضي الله عنه قال: “خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وقال: إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم نرجع فننحر” [البخاري] ووقت الذبح أربعة أيام، يوم النحر وثلاثة أيام التشريق، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “كل أيام التشريق ذبح” .( ابن حبان وأحمد والبيهقي)
كما يستحب ألا يأكل حتى يرجع من الصلاة فيأكل من أضحيته إن كان له أضحية، فإن لم يكن له من أضحية فلا حرج أن يأكل قبل الصلاة؛ فقد “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطعم حتى يرجع من المصلى فيأكل من أضحيته” [أحمد والبيهقي].
ثالثاً: التكبير يوم العيد : فالتكبير من السنن العظيمة في عيد الأضحى؛ لقوله تعالى : {واذكروا الله في أيام معدودات } (البقرة: 203)، ولقوله عليه الصلاة والسلام:” أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله” (رواه مسلم )؛ وأرجح أقوال أهل العلم أنه يبدأ من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر يوم من أيام التشريق؛ أي يكبر بعد ثلاث وعشرين صلاة مفروضة؛ قال الحافظ ابن حجر :[ وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود أنه من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى ] ؛ وروى ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق؛ وروى عن الأسود قال : كان عبد الله – ابن مسعود – رضي الله عنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من النحر؛ يقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر؛ لا إله إلا الله؛ الله أكبر الله أكبر ولله الحمد..
رابعاً: التهنئة : ومن آداب العيد التهنئة الطيبة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أيا كان لفظها مثل قول بعضهم لبعض : تقبل الله منا ومنكم؛ أو عيد مبارك وما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المباحة ؛ وعن جبير بن نفير ، قال : “كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا يوم العيد يقول بعضهم لبعض ، تُقُبِّل منا ومنك .”( قال ابن حجر في الفتح: إسناده حسن)؛ ولا ريب أن هذه التهنئة من مكارم الأخلاق والمظاهر الاجتماعية الحسنة بين المسلمين .
خامساً: التجمل للعيدين: فعن عبد الله بن عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ:” أَخَذَ عُمَرُ جُبَّةً مِنْ إِسْتَبْرَقٍ تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَأَخَذَهَا فَأَتَى بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْتَعْ هَذِهِ تَجَمَّلْ بِهَا لِلْعِيدِ وَالْوُفُودِ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هَذِهِ لِبَاسُ مَنْ لا خَلاقَ لَهُ ..” (رواه البخاري )؛ فأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل للعيد لكنه أنكر عليه شراء هذه الجبة لأنها من حرير ؛ وعن جابر رضي الله عنه قال : “كان للنبي صلى الله عليه وسلم جبة يلبسها للعيدين ويوم الجمعة”( صحيح ابن خزيمة)؛ وعن الحسن السبط قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين أن نلبس أجود ما نجد وأن نتطيب بأجود ما نجد وأن نضحي بأثمن ما نجد.( رواه الحاكم) ؛ فينبغي للرجل أن يلبس أجمل ما عنده من الثياب عند الخروج للعيد .
أما النساء فيبتعدن عن الزينة إذا خرجن لأنهن منهيات عن إظهار الزينة للرجال الأجانب؛ وكذلك يحرم على من أرادت الخروج أن تمس الطيب أو تتعرض للرجال بالفتنة فإنها ما خرجت إلا لعبادة وطاعة .
سادساً: الذهاب إلى الصلاة من طريق والعودة من آخر فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ:” كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ يَوْمُ عِيدٍ خَالَفَ الطَّرِيقَ.” (رواه البخاري)
وقد تلمس أهل العلم لذلك بعض الحكم منها: إظهار شعائر الإسلام بالذهاب والإياب، ومنها: السلام على أهل الطريقين، ومنها: التفاؤل بتغير الحال إلى المغفرة، ومنها: ليشهد له الطريقان عند الله يوم القيامة، والأرض تُحدِّثُ أخبارها يوم القيامة بما عُمل عليها من الخير والشرّ ؛ ومنها: إغاظة المنافقين واليهود ولنرهبهم بكثرة المسلمين؛ ومنها: قضاء حوائج الناس من الاستفتاء والتعليم والاقتداء أو الصدقة على المحتاجين؛ أو ليزور أقاربه وليصل رحمه؛ ومنها: أن الملائكة تقف على مفترق الطرق تكتب كل من يمر من هنا هناك ؛ وقيل غير ذلك.
سابعاً: صلة الرحم: لأن القطيعة والخصام سببٌ لعدم رفع الأعمال؛ وقد تكلمنا عن ذلك في خطبة عيد الفطر بالتفصيل تحت عنوان: العيد وصلة الأرحام ووحدة الأمة الإسلامية؛ مما يغني عن إعادته مرة أخرى.
ثامنا: تشرع التوسعة على الأهل والعيال في أيام العيد دون إسراف أو تبذير: شرع الإسلام في هذه الأيام إدخال السرور على الأهل والأولاد؛ وذلك في حدود الضوابط الشرعية التي أرشدنا إليها ديننا الحنيف بعيداً عما يغضب الله تبارك وتعالى من الإسراف والتبذير ؛ مصداقاً لقوله تعالى:{ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ} ( الأعراف:31)؛ فعلى المسلم إذن أن يتجنب الإسراف والتبذير في شتى صوره ، في المأكل والمشرب والمسكن والترفيه، وسائر الأغراض المشروعة، لأن الإسراف تبديد للموارد، وإضاعة للثروات، من أجل هذا فإن أهم ما فسرت به إضاعة المال التي نهى عنها النبي هو الإسراف.
هذا هو هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم في يوم العيد؛ ألا فلنتمثل بهديه صلى الله عليه وسلم في جميع أعمالنا وأقوالنا وأفعالنا !!
الدعاء؛؛؛؛؛؛؛ وكل عام وأنتم بخير؛؛؛؛؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛؛؛؛؛
كتبه : خادم الدعوة الإسلامية
د / خالد بدير بدوي